فصل: سورة القمر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة القمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 55‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة‏.‏ وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له‏:‏ ‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏

ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكية شتى‏.‏ فهي مشهد من مشاهد القيامة في المطلع، ومشهد من هذه المشاهد في الختام‏.‏ وبينهما عرض سريع لمصارع قوم نوح‏.‏ وعاد وثمود‏.‏ وقوم لوط‏.‏ وفرعون وملئه‏.‏ وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى‏.‏‏.‏

ولكن هذه الموضوعات ذاتها تعرض في هذه السورة عرضاً خاصاً، يحيلها جديدة كل الجدة‏.‏ فهي تعرض عنيفة عاصفة، وحاسمة قاصمة، يفيض منها الهول، ويتناثر حولها الرعب، ويظللها الدمار والفزع والانبهار‏!‏

وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة‏.‏ يشهدها المكذبون، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسون إيقاعات سياطها‏.‏ فإذا انتهت الحلقة وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولاً ورعباً‏.‏‏.‏ وهكذا تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق‏.‏ فيطل المشهد الأخير في السورة‏.‏ وإذا هو جو آخر، ذو ظلال أخرى‏.‏ وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة‏.‏ إنه مشهد المتقين‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات ونهر‏.‏ في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏‏.‏‏.‏ في وسط ذلك الهول الراجف، والفزع المزلزل، والعذاب المهين للمكذبين‏:‏ ‏{‏يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر‏}‏‏.‏‏.‏

فأين وأين‏؟‏ مشهد من مشهد‏؟‏ ومقام من مقام‏؟‏ وقوم من قوم‏؟‏ ومصير من مصير‏؟‏

‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏.‏ وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا‏:‏ سحر مستمر‏.‏ وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر‏.‏ ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر‏.‏ حكمة بالغة فما تغني النذر‏.‏ فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شيء نكر‏.‏ خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏.‏ مهطعين إلى الداع يقول الكافرون‏:‏ هذا يوم عسر‏}‏‏.‏‏.‏

مطلع باهر مثير، على حادث كوني كبير، وإرهاص بحادث أكبر‏.‏ لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير‏:‏

‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏‏.‏

فيا له من إرهاص‏!‏ ويا له من خبر‏.‏ ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر‏.‏

والروايات عن انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة‏.‏ تتفق كلها في إثبات وقوع الحادث، وتختلف في رواية هيئته تفصيلاً وإجمالاً‏:‏

من رواية أنس بن مالك- رضي الله عنه-‏.‏‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ سأل أهل مكة النبي- صلى الله عليه وسلم- آية‏.‏

فانشق القمر بمكة مرتين فقال‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏‏.‏ وقال البخاري‏:‏ حدثني عبد الله بن عبد الوهاب‏.‏ حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن أبي عروة، عن قتادة، عن أنس بن مالك‏.‏ أن أهل مكة سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية‏.‏ فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما‏.‏ وأخرجه الشيخان من طرق أخرى عن قتادة عن أنس‏.‏‏.‏

ومن رواية جبير بن مطعم- رضي الله عنه-‏.‏‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان ابن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصار فلقتين‏.‏ فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل، فقالوا‏:‏ سحرنا محمد، فقالوا‏:‏ إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم‏.‏‏.‏ تفرد به أحمد من هذا الوجه‏.‏‏.‏ وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن‏.‏‏.‏ ورواه ابن جرير والبيهقي من طرق أخرى عن جبير بن مطعم كذلك‏.‏‏.‏

ومن رواية عبد الله بن عباس- رضي الله عنه-‏.‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال‏:‏ انشق القمر في زمان النبي- صلى الله عليه وسلم-‏.‏‏.‏ ورواه البخاري أيضاً ومسلم من طريق آخر عن عراك بسنده السابق إلى ابن عباس‏.‏‏.‏ وروى ابن جرير من طريق أخرى إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه‏.‏‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا‏.‏‏.‏ وقال الطبراني بسند آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كسف القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا‏:‏ سحر القمر، فنزلت‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏مستمر‏}‏‏.‏

ومن رواية عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا‏:‏ حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ قال‏:‏ وقد كان ذلك في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة خلف الجبل‏.‏ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏

«اللهم اشهد»‏.‏ وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد‏.‏‏.‏

ومن رواية عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «اشهدوا» وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة‏.‏ وأخرجاه كذلك من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود‏.‏ وقال البخاري‏:‏ قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ انشق القمر على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت قريش‏:‏ هذا سحر ابن أبي كبشة‏.‏ قال‏:‏ فقالوا‏:‏ انظروا ما يأتيكم من السفار، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال‏:‏ فجاء السفار فقالوا ذلك‏.‏‏.‏ وروى البيهقي من طريق أخرى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود، بما يقرب من هذا‏.‏

فهذه روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع هذا الحادث، وتحديد مكانه في مكة- باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه كان في منى- وتحديد زمانه في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة‏.‏ وتحديد هيئته- في معظم الروايات أنه انشق فلقتين، وفي رواية واحدة أنه كسف ‏(‏أي خسف‏)‏‏.‏‏.‏ فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة‏.‏

وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه؛ فلا بد أن يكون قد وقع فعلاً بصورة يتعذر معها التكذيب، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات، لو وجدوا منفذاً للتكذيب‏.‏ وكل ما روي عنهم أنهم قالوا‏:‏ سحرنا‏!‏ ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر، فعرفوا أنه ليس بسحر؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه‏.‏

بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول‏:‏ إن المشركين سألوا النبي- صلى الله عليه وسلم- آية‏.‏ فانشق القمر‏.‏ فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله، لسبب معين‏:‏ ‏{‏وما منعنآ أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات- أي الخوارق- لما كان من تكذيب الأولين بها‏.‏

وفي كل مناسبة طلب المشركون آية من الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان الرد يفيد أن هذا الأمر خارج عن حدود وظيفته، وأنه ليس إلا بشراً رسولاً‏.‏ وكان يردهم إلى القرآن يتحداهم به بوصفه معجزة هذا الدين الوحيدة‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏.‏ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً‏.‏ وقالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏.‏ أو تسقط السمآء- كما زعمت- علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً‏.‏ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏.‏ قل‏:‏ سبحان ربي‏!‏ هل كنت إلا بشراً رسولاً‏؟‏‏}‏ فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية- أي خارقة- يبدو بعيداً عن مفهوم النصوص القرآنية؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده، وما فيه من إعجاز ظاهر؛ ثم توجيه هذا القلب- عن طريق القرآن- إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق، وفي أحداث التاريخ سواء‏.‏‏.‏ فأما ما وقع فعلاً للرسول- صلى الله عليه وسلم- من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراماً من الله لعبده، لا دليلاً لإثبات رسالته‏.‏‏.‏

ومن ثم نثبت الحادث- حادث انشقاق القمر- بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته‏.‏ ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات‏.‏ ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة‏.‏ باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب‏.‏‏.‏

وانشقاق القمر إذن كان آية كونية يوجه القرآن القلوب والأنظار إليها، كما يوجهها دائماً إلى الآيات الكونية الأخرى؛ ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونية الأخرى‏.‏

إن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة، والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ‏.‏ وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل- صلوات الله عليهم- قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق‏!‏

ولنفرض أن انشقاق القمر جاء آية خارقة‏.‏‏.‏ فإن القمر في ذاته آية أكبر‏!‏ هذا الكوكب بحجمه، ووضعه، وشكله، وطبيعته، ومنازله، ودورته، وآثاره في حياة الأرض، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد‏.‏ هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب، توقع إيقاعها وتلقي ظلالها، وتقوم أمام الحس شاهداً على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عناداً أو مراء‏!‏

وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله؛ وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة؛ ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة؛ لا مرة عارضة في زمان محدود، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود‏.‏

إن الكون كله هو مجال النظر والتأمل في آيات الله التي لا تنفد، ولا تذهب، ولا تغيب‏.‏ وهو بجملته آية‏.‏ وكل صغيرة فيه وكبيرة آية‏.‏ والقلب البشري مدعو في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة؛ والاستمتاع كذلك بعجائب الإبداع الممتعة، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق‏.‏

وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق القمر إيقاعاً يهز القلب البشري هزاً‏.‏ وهو يتوقع الساعة التي اقتربت، ويتأمل الآية التي وقعت، ويتصور أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكوني الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير‏.‏

وفي موضوع اقتراب الساعة روى الإمام أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا حسين، حدثنا محمد بن مطوف، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال‏:‏ سمعت رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول‏:‏ «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى‏.‏

ومع اقتراب الموعد المرهوب، ووقع الحادث الكوني المثير، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتى‏.‏‏.‏ فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد، وتصر على الضلال، ولا تتأثر بالوعيد كما لا تتأثر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكف عن التكذيب‏:‏

‏{‏وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا‏:‏ سحر مستمر‏.‏ وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر‏.‏ ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر‏.‏ حكمة بالغة فما تغني النذر‏}‏‏.‏

ولقد أعرضوا وقالوا‏:‏ سحرنا، وهم يرون آية الله في انشقاق القمر‏.‏ وكان هذا رأيهم مع آية القرآن‏.‏ فقالوا‏:‏ سحر يؤثر‏.‏ فهذا قولهم كلما رأوا آية‏.‏ ولما كانت الآيات متوالية متواصلة، فقد قالوا‏:‏ إنه سحر مستمر لا ينقطع، معرضين عن تدبر طبيعة الآيات وحقيقتها، معرضين كذلك عن دلالتها وشهادتها‏.‏ وكذبوا بالآيات وبشهادتها‏.‏ كذبوا اتباعاً لأهوائهم لا استناداً إلى حجة، ولا ارتكاناً إلى دليل، ولا تدبراً للحق الثابت المستقر في كل ما حولهم في هذا الوجود‏.‏‏.‏

‏{‏وكل أمر مستقر‏}‏‏.‏‏.‏ فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير‏.‏ وكل أمر في مكانه الثابت الذي لا يتزعزع ولا يضطرب‏.‏ فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار، لا على الهوى المتقلب، والمزاج المتغير؛ أو المصادفة العابرة والارتجال العارض‏.‏‏.‏ كل شيء في موضعه وفي زمانه، وكل أمر في مكانه وفي إبانه‏.‏ والاستقرار يحكم كل شيء من حولهم، ويتجلى في كل شيء‏:‏ في دورة الأفلاك، وفي سنن الحياة‏.‏ وفي أطوار النبات والحيوان‏.‏ وفي الظواهر الثابتة للأشياء والمواد‏.‏

لا بل في انتظام وظائف أجسامهم وأعضائهم التي لا سلطان لهم عليها‏.‏ والتي لا تخضع للأهواء‏!‏ وبينما هذا الاستقرار يحيط بهم ويسيطر على كل شيء من حولهم، ويتجلى في كل أمر من بين أيديهم ومن خلفهم‏.‏‏.‏ إذ هم وحدهم مضطربون تتجاذبهم الأهواء‏!‏ ‏{‏ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر‏}‏‏.‏‏.‏ أنباء الآيات الكونية التي صرّفها الله لهم في هذا القرآن؛ وأنباء المكذبين قبلهم ومصارعهم، وأنباء الآخرة التي صورها القرآن لهم‏.‏‏.‏ وكان في هذا كله زاجر ورادع لمن يزدجر ويرتدع‏.‏ وكان فيه من حكمة الله ما يبلغ القلوب ويوجهها إلى تدبيره الحكيم‏.‏ ولكن القلوب المطموسة لا تتفتح لرؤية الآيات، والانتفاع بالأنباء، واليقظة على صوت النذير بعد النذير‏:‏ ‏{‏حكمة بالغة فما تغني النذر‏}‏‏.‏ إنما هو الإيمان هبة الله للقلب المتهيئ للإيمان، المستحق لهذا الإنعام‏!‏

وعند هذا الحد من تصوير إعراضهم وإصرارهم، وعدم انتفاعهم بالأنباء، وقلة جدوى النذر مع هؤلاء‏.‏ يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- للإعراض عنهم وتركهم يلاقون اليوم الذي لا يحفلون النذير باقترابه، وهم يرون انشقاق القمر بين يدي مجيئه‏:‏

‏{‏فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شيء نكر‏.‏ خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏.‏ مهطعين إلى الداع يقول الكافرون‏:‏ هذا يوم عسر‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مشهد من مشاهد ذلك اليوم، يناسب هوله وشدته ظلال السورة كلها، ويتناسق مع الإرهاص باقتراب الساعة، ومع الإنباء بانشقاق القمر، ومع الإيقاع الموسيقي في السورة كذلك‏!‏

«وهو متقارب سريع‏.‏ وهو مع سرعته شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات‏:‏ هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنهم جراد منتشر ‏(‏ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور المنظر المعروض‏)‏ وهذه الجموع خاشعة أبصارها من الذل والهول، وهي تسرع في سيرها نحو الداعي، الذي يدعوها لأمر غريب نكير شديد لا تعرفه ولا تطمئن إليه‏.‏‏.‏ وفي أثناء هذا التجمع والخشوع والإسراع يقول الكافرون‏:‏ ‏{‏هذا يوم عسر‏}‏‏.‏‏.‏ وهي قولة المكروب المجهود، الذي يخرج ليواجه الأمر الصعيب الرعيب‏!‏»

فهذا هو اليوم الذي اقترب، وهم عنه معرضون، وبه يكذبون‏.‏ فتول عنهم يوم يجيء، ودعهم لمصيرهم فيه وهو هذا المصير الرعيب المخيف‏!‏

وبعد هذا الإيقاع العنيف في مطلع السورة؛ والمشهد المكروب الذي يشمل المكذبين في يوم القيامة‏.‏‏.‏ يأخذ في عرض مشاهد التنكيل والتعذيب الذي أصاب بالفعل أجيال المكذبين قبلهم، وعرض مصارع الأمم التي سلكت من قبل مسلكهم، بادئاً بقوم نوح‏:‏

‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح، فكذبوا عبدنا وقالوا‏:‏ مجنون وازدجر‏.‏‏.‏ فدعا ربه أَني مغلوب فانتصر‏.‏ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر‏.‏ وفجرنا الأرض عيوناً، فالتقى الماء على أمر قد قدر‏.‏ وحملناه على ذات ألواح ودسر‏.‏ تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر‏.‏ ولقد تركناها آية فهل من مدكر‏؟‏ فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏

‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح‏}‏‏.‏‏.‏ بالرسالة وبالآيات ‏{‏فكذبوا عبدنا‏}‏‏.‏‏.‏ نوحاً ‏{‏وقالوا‏:‏ مجنون‏}‏‏.‏‏.‏ كما قالت‏:‏ قريش ظالمة عن محمد- صلى الله عليه وسلم- وهددوه بالرجم، وآذوه بالسخرية، وطالبوه أن يكف عنهم ونهروه بعنف‏:‏ ‏{‏وازدجر‏}‏‏.‏‏.‏ بدلاً من أن ينزجروا هم ويرعووا‏!‏

عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ‏.‏ عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه، وما انتهى إليه جهده وعمله، وما انتهت إليه طاقته ووسعه‏.‏ ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول‏:‏

‏{‏فدعا ربه‏:‏ أني مغلوب‏.‏ فانتصر‏}‏‏.‏‏.‏

انتهت طاقتي‏.‏ انتهى جهدي‏.‏ انتهت قوتي‏.‏ وغلبت على أمري‏.‏ ‏{‏أني مغلوب فانتصر‏}‏‏.‏‏.‏ انتصر أنت يا ربي‏.‏ انتصر لدعوتك‏.‏ انتصر لحقك‏.‏ انتصر لمنهجك‏.‏ انتصر أنت فالأمر أمرك، والدعوة دعوتك‏.‏ وقد انتهى دوري‏!‏

وما تكاد هذه الكلمة تقال؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة‏.‏‏.‏ فتدور دورتها المدوية المجلجلة‏:‏

‏{‏ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر‏.‏ وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر‏}‏‏.‏‏.‏

وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة‏.‏ تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة‏:‏ ‏{‏ففتحنا‏}‏ فيحس القارئ يد الجبار تفتح ‏{‏أبواب السماء‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا اللفظ وهذا الجمع‏.‏ ‏{‏بماء منهمر‏}‏‏.‏‏.‏ غزير متوال‏.‏ وبالقوة ذاتها وبالحركة نفسها‏:‏ ‏{‏وفجرنا الأرض عيوناً‏}‏‏.‏‏.‏ وهو تعبير يرسم مشهد التفجر وكأنه ينبثق من الأرض كلها، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيوناً‏.‏

والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض‏.‏‏.‏ ‏{‏على أمر قد قدر‏}‏‏.‏‏.‏ التقيا على أمر مقدر، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر‏.‏ طائعان للأمر، محققان للقدر‏.‏

حتى إذا صار طوفاناً يطم ويعم، ويغمر وجه الأرض، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه‏.‏ وقد يئس الرسول من تطهيره، وغلب على أمره في علاجه‏.‏ امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الذي دعا دعوته، فتحرك لها الكون كله‏.‏ امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم‏:‏

‏{‏وحملناه على ذات ألواح ودسر‏.‏ تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر‏}‏‏.‏‏.‏

وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها‏.‏ فهي ذات ألواح ودسر‏.‏ توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها‏.‏ وهي تجري في رعاية الله بملاحظة أعينه‏.‏ ‏{‏جزاء لمن كان كفر‏}‏‏.‏ وجحد وازدجر‏.‏ وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء‏.‏ ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يُغلب في سبيل الله‏.‏ ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر‏!‏‏.‏‏.‏ إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته‏.‏ والله من ورائها بجبروته وقدرته‏.‏

وعلى مشهد الانتصار الهائل الكامل؛ والمحق الحاسم الشامل، يتوجه إلى القلوب التي شهدت المشهد كأنها تراه‏.‏

يتوجه إليها بلمسة التعقيب، لعلها تتأثر وتستجيب‏:‏

‏{‏ولقد تركناها آية فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

هذه الواقعة بملابساتها المعروفة‏.‏ تركناها آية للأجيال ‏{‏فهل من مدكر‏؟‏‏}‏ يتذكر ويعتبر‏؟‏

ثم سؤال لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير‏:‏

‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان كما صوره القرآن‏.‏ كان عذاباً مدمراً جباراً‏.‏ وكان نذيراً صادقاً بهذا العذاب‏.‏

وهذا هو القرآن حاضراً، سهل التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر‏.‏ فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد‏.‏ وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد‏.‏ وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنساً‏:‏

‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر، فها من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا هو التعقيب الذي يتكرر، بعد كل مشهد يصور‏.‏‏.‏ ويقف السياق عنده بالقلب البشري يدعوه دعوة هادئة إلى التذكر والتدبر، بعد أن يعرض عليه حلقة من العذاب الأليم الذي حل بالمكذبين‏.‏

‏{‏كذبت عاد، فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏ إنآ أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر‏.‏ فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه هي الحلقة الثانية، أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف؛ والمصرع الذي يقف عليه بعد وقفته على مصرع قوم نوح‏.‏ أول المهلكين‏.‏

يبدؤه بالإخبار عن تكذيب عاد‏.‏ وقبل أن يكمل الآية يسأل سؤال التعجيب والتهويل‏:‏ ‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ كيف كان بعد تكذيب عاد‏؟‏ ثم يجيب‏.‏‏.‏

كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب‏:‏

‏{‏إنآ أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر‏}‏‏.‏‏.‏ والريح الصرصر‏:‏ الباردة العنيفة‏.‏ وجرس اللفظ يصور نوع الريح‏.‏ والنحس‏:‏ الشؤم‏.‏ وأي نحس يصيب قوماً أشد مما أصاب عاد‏.‏ والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم‏.‏ فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها‏؟‏‏!‏

والمشهد مفزع مخيف، وعاصف عنيف‏.‏ والريح التي أرسلت على عاد «هي من جند الله» وهي قوة من قوى هذا الكون، من خلق الله، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره؛ وهو يسلطها على من يشاء، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله‏.‏ صاحب الأمر وصاحب الناموس‏:‏

‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

يكررها بعد عرض المشهد‏.‏ والمشهد هو الجواب‏!‏

ثم يختم الحلقة بالتعقيب المكرر في السورة وفق نسقها الخاص‏:‏

‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يمضي إلى المشهد التالي في السياق وفي التاريخ‏:‏

‏{‏كذبت ثمود بالنذر‏.‏ فقالوا‏:‏ أبشرا منا واحداً نتبعه‏؟‏ إنآ إذاً لفي ضلال وسعر‏.‏ أألقي الذكر عليه من بيننا‏؟‏ بل هو كذاب أشر‏.‏ سيعلمون غدا من الكذاب الأشر‏.‏ إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر‏.‏

ونبئهم أن المآء قسمة بينهم، كل شرب محتضر‏.‏ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏.‏ فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏ إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر‏.‏‏.‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وثمود كانت القبيلة التي خلفت عاداً في القوة والتمكين في جزيرة العرب‏.‏‏.‏ كانت عاد في الجنوب كانت ثمود في الشمال‏.‏ وكذبت ثمود بالنذر كما كذبت عاد، غير معتبرة بمصرعها المشهور المعلوم في أنحاء الجزيرة‏.‏

‏{‏فقالوا‏:‏ أبشراً منا واحداً نتبعه‏؟‏ إنآ إذاً لفي ضلال وسعر‏.‏ أألقي الذكر عليه من بيننا‏؟‏ بل هو كذاب أشر‏}‏‏.‏‏.‏

وهي الشبهة المكرورة التي تحيك في صدور المكذبين جيلاً بعد جيل‏:‏ ‏{‏أألقي الذكر عليه من بيننا‏}‏‏؟‏ كما أنها هي الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة، إنما تنظر إلى شخص الداعية‏:‏ ‏{‏أبشراً منا واحداً نتبعه‏؟‏‏}‏ ‏!‏

وماذا في أن يختار الله واحداً من عباده‏.‏‏.‏ والله أعلم حيث يجعل رسالته‏.‏‏.‏ فيلقي عليه الذكر- أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر- ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده‏.‏ وهو خالق الخلق‏.‏ وهو منزل الذكر‏؟‏ إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة‏.‏ النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق؛ ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم‏.‏ وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم‏.‏

ومن ثم يقولون لأنفسهم‏:‏ ‏{‏أبشراً منا واحداً نتبعه‏؟‏ إنا إذاً لفي ضلال وسعر‏}‏‏.‏‏.‏ أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر‏!‏ وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى‏!‏ وأن يحسبوا أنفسهم في سعر- لا في سعير واحد- إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان‏!‏

ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم في طريق الحق والقصد‏.‏ يتهمونه بالكذب الطمع‏:‏ ‏{‏بل هو كذاب أشر‏}‏‏.‏‏.‏ كذاب لم يلق عليه الذكر‏.‏ أشر‏:‏ شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة‏!‏ وهو الاتهام الذي يواجه بكل داعية‏.‏ اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستاراً لتحقيق مآرب ومصالح‏.‏ وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب‏.‏

وبينما يجري السياق على أسلوب الحكاية لقصة غبرت في التاريخ‏.‏‏.‏ يلتفت فجأة وكأنما الأمر حاضر‏.‏ والأحداث جارية‏.‏ فيتحدث عما سيكون‏.‏ ويهدد بهذا الذي سيكون‏:‏

‏{‏سيعلمون غداً من الكذاب الأشر‏}‏ ‏!‏

وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصص‏.‏ وهي طريقة تنفخ روح الحياة الواقعية في القصة، وتحيلها من حكاية تحكى، إلى واقعة تعرض على الأنظار، يترقب النظارة أحداثها الآن، ويرتقبونها في مقبل الزمان‏!‏

‏{‏سيعلمون غداً من الكذاب الأشر‏}‏‏.‏‏.‏ وسيكشف لهم الغد عن الحقيقة‏.‏ ولن يكونوا بمنجاة من وقع هذه الحقيقة‏.‏ فستكشف عن البلاء المدمر للكذاب الأشر‏!‏

‏{‏إنا مرسلو الناقة فتنة لهم‏.‏

فارتقبهم واصطبر‏.‏ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم‏.‏ كل شرب محتضر‏}‏‏.‏‏.‏

ويقف القارئ يترقب ما سيقع، عندما يرسل الله الناقة فتنة لهم، وامتحاناً مميزاً لحقيقتهم‏.‏ ويقف الرسول- رسولهم عليه السلام- مرتقباً ما سيقع، مؤتمراً بأمر ربه في الاصطبار عليهم حتى تقع الفتنة ويتم الامتحان‏.‏ ومعه التعليمات‏.‏‏.‏ أنا الماء في القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة- ولا بد أنها كانت ناقة خاصة ذات خصائص معينة تجعلها آية وعلامة- فيوم لها ويوم لهم- تحضر يومها ويحضرون يومهم‏.‏ وتنال شربها وينالون شربهم‏.‏

ثم يعود السياق إلى أسلوب الحكاية‏.‏ فيقص ما كان بعد ذلك منهم‏:‏

‏{‏فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏}‏‏.‏‏.‏

وصاحبهم هو أحد الرهط المفسدين في المدينة، الذين قال عنهم في سورة النمل‏:‏ ‏{‏وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏}‏ وهو الذي قال عنه في سورة الشمس‏:‏ ‏{‏إذا انبعث أشقاها‏}‏ وقيل‏:‏ إنه تعاطى الخمر فسكر ليصير جريئاً على الفعلة التي هو مقدم عليها‏.‏ وهي عقر الناقة التي أرسلها الله آية لهم؛ وحذرهم رسولهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم‏.‏‏.‏ ‏{‏فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏}‏ وتمت الفتنة ووقع البلاء‏.‏

‏{‏فكيف كان عذابي ونذر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وهو سؤال التعجيب والتهويل‏.‏ قبل ذكر ما حل من العذاب بعد النذير‏:‏

‏{‏إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

ولا يفصل القرآن هذه الصيحة‏.‏ وإن كانت في موضع آخر في سورة «فصلت» توصف بأنها صاعقة‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فقل‏:‏ أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ وقد تكون كلمة صاعقة وصفاً للصيحة‏.‏ فهي صيحة صاعقة‏.‏ وقد تكون تعبيراً عن حقيقتها‏.‏ فتكون الصيحة والصاعقة شيئاً واحداً‏.‏ وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة‏.‏ أو تكون الصاعقة أثراً من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها‏.‏

وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة، ففعلت بهم ما فعلت، مما جعلهم ‏{‏كهشيم المحتظر‏}‏‏.‏‏.‏ والمحتظر صانع الحظيرة‏.‏ وهو يصنعها من أعواد جافة‏.‏ فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيماً‏.‏ أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيماً تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف‏.‏ وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة‏!‏

وهو مشهد مفجع مفزع‏.‏ يعرض رداً على التعالي والتكبر‏.‏ فإذا المتعالون المتكبرون هشيم‏.‏ وهشيم مهين كهشيم المحتظر‏!‏

وأمام هذا المشهد العنيف المخيف، يرد قلوبهم إلى القرآن ليتذكروا ويتدبروا‏.‏ وهو ميسر للتذكر والتدبر‏:‏

‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏.‏ فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

ويسدل الستار على الهشيم المهين‏.‏ وفي العين منه مشهد‏.‏ وفي القلب منه أثر‏.‏ والقرآن يدعو من يذكر ويتفكر‏.‏‏.‏

ثم يرفع الستار عن حلقة جديدة تالية- بعد ذلك- في التاريخ، في محيط الجزيرة العربية كذلك‏:‏

‏{‏كذبت قوم لوط بالنذر‏.‏ إنآ أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر‏.‏ نعمة من عندنا‏.‏

كذلك نجزي من شكر‏.‏ ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر‏.‏ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابي ونذر‏.‏ ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر‏.‏ فذوقوا عذابي ونذر‏.‏ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

وقصة قوم لوط وردت مفصلة في مواضع أخرى‏.‏ والمقصود بعرضها هنا ليس هو تفصيلاتها، إنما هي العبرة من عاقبة التكذيب، والأخذ الأليم الشديد‏.‏ من ثم تبدأ بذكر ما وقع منهم من تكذيب بالنذر‏:‏ ‏{‏كذبت قوم لوط بالنذر‏}‏‏.‏‏.‏ وعلى إثر هذه الإشارة يصف ما نزل بهم من النكال‏:‏

‏{‏إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر‏.‏ نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر‏.‏‏.‏‏}‏

والحاصب‏:‏ الريح تحمل الحجارة‏.‏ وفي مواضع أخرى ورد أنه أرسل إليهم حجارة من طين ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد‏.‏ ولم ينج إلا آل لوط- إلا امرأته- نعمة من عند الله جزاء إيمانهم وشكرهم‏.‏‏.‏ ‏{‏كذلك نجزي من شكر‏}‏‏.‏ فننجيه وننعم عليه في وسط المهالك والمخاوف‏.‏

والآن وقد عرض القصة من طرفيها‏:‏ طرف التكذيب وطرف الأخذ الشديد‏.‏ فإنه يعود لشيء من التفصيل فيما وقع بين الطرفين‏.‏‏.‏ وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصة حين يراد إبراز إيحاءات معينة من إيرادها في هذا النسق‏.‏ هذه التفصيلات هي‏:‏

‏{‏ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر‏.‏ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم، فذوقوا عذابي ونذر‏.‏ ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر‏}‏‏.‏‏.‏

وطالما أنذر لوط قومه عاقبة المنكر الشاذ الذي كانوا يأتونه، فتماروا بالنذر، وشكوا فيها وارتابوا، وتبادلوا الشك والارتياب فيما بينهم وتداولوه، وجادلوا نبيهم فيه‏.‏ وبلغ منهم الفجور والاستهتار أن يراودوه هو نفسه عن ضيفه- من الملائكة- وقد حسبوهم غلماناً صباحاً فهاج سعارهم الشاذ الملوث القذر‏!‏ وساوروا لوطاً يريدون الاعتداء المنكر على ضيوفه، غير محتشمين ولا مستحيين، ولا متحرجين من انتهاك حرمة نبيهم الذي حذرهم عاقبة هذا الشذوذ القذر المريض‏.‏

عندئذ تدخلت يد القدرة، وتحرك الملائكة لأداء ما كلفوه وجاءوا من أجله‏:‏ ‏{‏فطمسنا أعينهم‏}‏ فلم يعودوا يرون شيئاً ولا أحداً؛ ولم يعودوا يقدرون على مساورة لوط ولا الإمساك بضيفه‏!‏ والإشارة إلى طمس أعينهم لا ترد إلا في هذا الموضع بهذا الوضوح‏.‏ ففي موضع آخر ورد‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك‏}‏ فزاد هنا ذكر الحالة التي صارت تمنعهم من أن يصلوا إليه‏.‏ وهي انطماس العيون‏!‏

وبينما السياق يجري مجرى الحكاية، إذا به حاضر مشهود، وإذا الخطاب يوجه إلى المعذبين‏:‏ ‏{‏فذوقوا عذابي ونذر‏}‏‏.‏‏.‏ فهذا هو العذاب الذي حذرتم منه، وهذه هي النذر التي تماريتم فيها‏!‏

وكان طمس العيون في المساء‏.‏‏.‏ في انتظار الصباح الذي قدره الله لأخذهم جميعاً‏:‏

‏{‏ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر‏}‏‏.‏‏.‏

وهو ذلك العذاب الذي عجل بذكره في السياق‏.‏

وهو الحاصب الذي طهر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد‏.‏

ومرة أخرى تتغير طريقة العرض، ويستحضر المشهد كأنه اللحظة واقع‏.‏ وينادى المعذبون وهم يعانون العذاب‏:‏

‏{‏فذوقوا عذابي ونذر‏}‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

ثم يجيء التعقيب المألوف، عقب المشهد العنيف‏:‏

‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏‏؟‏

وتختم هذه الحلقات بحلقة خارج الجزيرة، ومصرع من المصارع المشهورة المذكورة‏.‏ في إشارة سريعة خاطفة‏:‏

‏{‏ولقد جاء آل فرعون النذر‏.‏ كذبوا بآياتنا كلها، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تختصر قصة فرعون وملئه في طرفيها‏:‏ مجيء النذر لآل فرعون وتكذيبهم بالآيات التي جاءهم بها رسولهم‏.‏ وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر‏.‏ والإشارة إلى العزة والاقتدار تلقي ظلال الشدة في الأخذ؛ وفيها تعريض بعزة فرعون واقتداره على البغي والظلم‏.‏ فقد ضاعت العزة الباطلة، وسقط الاقتدار الموهوم‏.‏ وأخذه الله- هو وآله- أخذ عزيز حقاً مقتدر صدقاً‏.‏ أخذهم أخذاً شديداً يناسب ما كانوا عليه من ظلم وغشم وبطش وجبروت‏.‏

وعلى هذه الحلقة الأخيرة على مصرع فرعون الجبار‏.‏ يسدل الستار‏.‏‏.‏

والآن‏.‏ وقد أسدل الستار على آخر مشهد من مشاهد العذاب والنكال‏.‏ والمكذبون يشهدون؛ ويتلقى حسهم إيقاع هذه المشاهد‏.‏‏.‏ الآن والمصارع المتتالية حاضرة في خيالهم، ضاغطة على حسهم‏.‏‏.‏ والآن يتوجه إليهم بالخطاب؛ يحذرهم مصرعاً كهذه المصارع‏.‏ وينذرهم ما هو أدهى وأفظع‏:‏

‏{‏أكفاركم خير من أولئكم‏؟‏ أم لكم برآءة في الزبر‏؟‏ أم يقولون‏:‏ نحن جميع منتصر‏؟‏ سيهزم الجمع ويولون الدبر‏.‏ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر‏.‏ إن المجرمين في ضلال وسعر‏.‏ يوم يسحبون في النار على وجوههم‏:‏ ذوقوا مس سقر‏.‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر‏.‏ ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر‏.‏ ولقد أهلكنآ أشياعكم فهل من مدكر‏.‏ وكل شيء فعلوه في الزبر‏.‏ وكل صغير وكبير مستطر‏}‏

إنه الإنذار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ وإسقاط كل شبهة وكل شك في صدق هذا الإنذار وسد كل ثغرة وكل طمع في الهرب والفكاك؛ أو المغالطة في الحساب والفرار من الجزاء‏!‏

تلك كانت مصارع المكذبين‏.‏ فما يمنعكم أنتم من مثل ذلك المصير‏؟‏ ‏{‏أكفاركم خير من أولئكم‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وما ميزة كفاركم على أولئكم‏؟‏ ‏{‏أم لكم براءة في الزبر‏}‏‏.‏‏.‏ تشهد بها الصحائف المنزلة، فتعفوا إذن من جرائر الكفر والتكذيب‏؟‏ لا هذه ولا تلك‏.‏ فلستم خيراً من أولئكم، وليست لكم براءة في الصحائف المنزلة، وليس هنالك إلا لقاء المصير الذي لقيه الكفار من قبلكم في الصورة التي يقدرها الله لكم‏.‏

ثم يلتفت عن خطابهم إلى خطاب عام، يعجب فيه من أمرهم‏:‏

‏{‏أم يقولون‏:‏ نحن جميع منتصر‏}‏‏.‏

وذلك حين يرون جمعهم فتعجبهم قوتهم، ويغترون بتجمعهم، فيقولون‏:‏ إنا منتصرون لا هازم لنا ولا غالب‏؟‏

هنا يعلنها عليهم مدوية قاضية حاسمة‏:‏

‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يعصمهم تجمعهم، ولا تنصرهم قوتهم‏.‏ والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار‏.‏

‏.‏ ولقد كان ذلك‏.‏ كما لا بد أن يكون‏!‏

قال البخاري بإسناده إلى ابن عباس-‏:‏ إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال وهو في قبة له يوم بدر‏:‏ «أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً‏.‏ فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال‏:‏ حسبك يا رسول الله ألححت على ربك‏!‏ فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏»‏.‏

وفي رواية لابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة، قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏ قال عمر‏:‏ أي جمع يهزم‏؟‏ أي أي جمع يغلب‏؟‏ قال عمر‏:‏ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يثب في الدرع، وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏‏.‏ فعرفت تأويلها يومئذ‏!‏»

وكانت هذه هزيمة الدنيا‏.‏ ولكنها ليست هي الأخيرة‏.‏ وليست هي الأشد والأدهى؛ فهو يضرب عن ذكرها ليذكر الأخرى‏:‏

‏{‏بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرُّ‏}‏‏.‏‏.‏

أدهى وأمر من كل عذاب رأوه أو يرونه في هذه الأرض‏.‏ وأدهى وأمر من كل مشهد رأوه مرسوماً فيما مر‏.‏ من الطوفان، إلى الصرصر‏.‏ إلى الصاعقة‏.‏ إلى الحاصب‏.‏ إلى أخذ فرعون وآله أخذ عزيز مقتدر‏!‏

ثم يفصّل كيف هي أدهى وأمر‏.‏ يفصل هذا في مشهد عنيف من مشاهد القيامة‏:‏

‏{‏إن المجرمين في ضلال وسعر‏.‏ يوم يسحبون في النار على وجوههم‏:‏ ذوقوا مسَّ سقر‏}‏‏.‏‏.‏

في ضلال يعذب العقول والنفوس، وفي سعر تكوي الجلود والأبدان‏.‏‏.‏ في مقابل ما كانوا يقولون هم وأمثالهم من قبل‏:‏ ‏{‏أبشراً منا واحداً نتبعه‏؟‏ إنا إذن لفي ضلال وسعر‏}‏‏.‏ ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر‏!‏

وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار‏.‏ وهم يزادون عذاباً بالإيلام النفسي، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضراً معروضاً على الأسماع والأنظار‏:‏ ‏{‏ذوقوا مس سقر‏}‏ ‏!‏

وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة، وإلى القوم خاصة‏.‏ ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره‏.‏‏.‏

إن ذلك الأخذ في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة‏.‏ وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر‏.‏ وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود‏.‏‏.‏

إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة‏.‏ لا شيء جزاف‏.‏ لا شيء عبث‏.‏ لا شيء مصادفة‏.‏ لا شيء ارتجال‏:‏

‏{‏إنا كل شيء خلقناه بقدر‏}‏‏.‏

كل شيء‏.‏‏.‏ كل صغير وكل كبير‏.‏ كل ناطق وكل صامت‏.‏ كل متحرك وكل ساكن‏.‏ كل ماض وكل حاضر‏.‏ كل معلوم وكل مجهول‏.‏ كل شيء‏.‏‏.‏ خلقناه بقدر‏.‏‏.‏

قدر يحدد حقيقته‏.‏ ويحدد صفته‏.‏ ويحدد مقداره‏.‏ ويحدد زمانه‏.‏ ويحدد مكانه‏.‏ ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء‏.‏

وتأثيره في كيان هذا الوجود‏.‏

وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة، مصداقها هذا الوجود كله‏.‏ حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود، ويتجاوب معه، ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقاً دقيقاً‏.‏ كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود‏.‏

ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل، ويطيقه العقل البشري، ويملك معرفته عن هذا الطريق‏.‏ ووراء هذا القدر يبقى دائماً ما هو أعظم وأكمل، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق كل شيء فيه بقدر‏.‏

ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له‏.‏‏.‏ وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها‏.‏ فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها‏.‏‏.‏ ثم يتحقق هذا الذي فرضوه‏.‏ ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام، في هذا الفضاء الهائل، بهذه النسب المقدرة، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب‏!‏

ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كلها، أو لا يسمح أصلاً بقيامها‏.‏ فحجم هذه الأرض، وكتلتها، وبعدها عن الشمس‏.‏ وكتلة هذه الشمس، ودرجة حرارتها‏.‏ وميل الأرض على محورها بهذا القدر، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس‏.‏ وبعد القمر عن الأرض‏.‏ وحجمه وكتلته‏.‏ وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض‏.‏‏.‏ إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديراً، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء، ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض‏!‏

ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها؛ وبين بعضها وبعض‏.‏‏.‏ إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية‏.‏ فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائماً بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها‏.‏ وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء، في وقت ما، لإعالتهم وإعاشتهم‏!‏

ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى أي شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض‏.‏ إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض‏.‏

«إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة‏.‏ وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار‏.‏ ولو كانت مع عمرها الطويل، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها‏.‏ أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض‏!‏

بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مِقلاتٌ نَزور

وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث‏!‏

والذبابة تبيض ملايين البويضات‏.‏ ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين‏.‏ ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس- وأولها الإنسان- مستحيلة على وجه هذه الأرض‏.‏ ولكن عجلة التوازن التي لا تختل، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه‏!‏

والميكروبات- وهي أكثر الأحياء عدداً، وأسرعها تكاثراً، وأشدها فتكاً- هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمراً‏.‏ تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة‏.‏ ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان‏.‏ ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء‏!‏

وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء‏.‏ وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع‏.‏ فكثرة العدد سلاح‏.‏ وقوة البطش سلاح‏.‏ وبينهما ألوان وأنواع‏.‏‏.‏

الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها‏.‏ والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم ينذر فيها السام‏!‏

والخنفساء- وهي قليلة الحيلة- مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء‏!‏

والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة ألباس والافتراس‏!‏

وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء‏.‏

وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام‏.‏‏.‏ الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء‏.‏‏.‏

البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم‏.‏ وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها‏!‏ والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء اليه بما قد يؤذيه‏.‏

والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع السائل الأبيض مائلاً إلى الإصفرار‏.‏

ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض‏.‏ وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين‏.‏ ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقداراللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات‏.‏ ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو «‏.‏

وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان، ووظائفها، وطريقة عملها، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته‏.‏‏.‏ يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير‏.‏ ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد‏.‏ بل كل عضو‏.‏ بل كل خلية من خلاياه‏.‏ وعين الله عليه تكلؤه وترعاه‏.‏ ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة‏.‏ جهاز الغدد الصم» تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية، والتي يبلغ من قوتها أن جزءاً من ألف بليون جزء منها تحدث آثاراً خطيرة في جسم الإنسان‏.‏ وهي مرتبة بحيث أن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى‏.‏ وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيداً مدهشاً، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفاً عاماً في الجسم، يبلغ حد الخطورة‏.‏ إذا دام هذا الاختلال وقتاً قصيراً «‏.‏

أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته‏.‏‏.‏

» زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها، والتغلب عليها، بأنياب قاطعة، وأسنان حادة، وأضراس صلبة‏.‏ ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها، فلأرجلها عضلات قوية، سلحت بأظافر ومخالب حادة، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام «‏.‏

فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي، فهي تختلف فيما زودت به‏.‏‏.‏

» وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة، فأفواهها واسعة نسبياً؛ وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة‏.‏ وبدلاً منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة؛ فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات‏.‏ وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة الهضم، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش، وهو مخزن له، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى «القلنسوة»‏.‏

ثم يرجع إلى الفم، فيمضغ ثانية مضغاً جيداً، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى «أم التلافيف»، ثم إلى رابع يسمى «الإنفحة» وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان، إذ كثيراً ما يكون هدفاً لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي‏.‏ ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية، إذ أن العشب من النباتات العسرة الهضم، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جداً، فلو لم يكن مجتراً، وبمعدته مخزن خاص، لضاع وقت طويل في الرعي، يكاد يكون يوماً بأكمله، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من العذاء، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ‏.‏ إنما سرعة الأكل، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئاً من التخمر، ليبدأ المضغ والطحن والبلع، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وعذاء وحسن هضم‏.‏ فسبحان المدبر «‏.‏

» والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم‏.‏ بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء‏.‏ وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش‏.‏

«أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض‏.‏ بينما منقار البجعة مثلاً طويل طولاً ملحوظاً، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد‏.‏ إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي‏.‏

» ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان، التي غالباً ما تكون تحت سطح الأرض‏.‏ ويقول العلم‏:‏ إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره‏.‏

«أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب‏.‏ فلما لم يعط أسناناً فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام‏.‏ ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام»‏.‏

ويطول بنا الاستعراض، ونخرج على منهج هذه الظلال، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو، فنسرع الخطى إلى «الإميبا» وهي ذات الخلية الواحدة، لنرى يد الله معها، وعينه عليها، وهو يقدر لها أمرها تقديراً‏.‏

«والإميبا كائن حي دقيق الحجم‏.‏ يعيش في البرك والمستنقعات، أو على الأحجار الراسبة في القاع‏.‏ ولا يرى بالعين إطلاقاً‏.‏ وهو يرى بالمجاهر، كتلة هلامية، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات‏.‏ فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد، تستعملها كالأقدام، للسير بها إلى المكان المرغوب‏.‏

ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة‏.‏ وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين، وتفرز عليه عصارة هاضمة، فتتغذى بالمفيد منها، أما الباقي فتطرده من جسمها‏!‏ وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء‏.‏‏.‏ فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقاً بالعين، يعيش ويتحرك، ويتغذى ويتنفس، ويخرج فضلاته‏!‏ فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين، ليكون كل قسم حيواناً جديداً «‏.‏‏.‏

» وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير والتقدير فيها لا يقل ظهوراً وبروزاً عنه في تلك الأحياء‏.‏ ‏{‏وخلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير‏.‏ إن حركة هذا الكون كله بأحدثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها‏.‏ كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد، ككل نفس يخرج من صدر‏!‏ إن هذا النفس مقدر في وقته، مقدر في مكانه، مقدر في ظروفه كلها، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون، محسوب حسابه في التناسق الكوني، كالأحداث العظام الضخام‏!‏

وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء‏.‏‏.‏ إنه هو الآخر قائم هناك بقدر‏.‏ وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان‏!‏ وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة‏.‏ وهذه الخلية السابحة في الماء‏.‏ كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء‏!‏

تقدير في الزمان، تقدير في المكان، تقدير في المقدار، وتقدير في الصورة‏.‏ وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال‏.‏

من ذا الذي يذكر مثلاً أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه، لم يكن حادثاً شخصياً فردياً‏.‏‏.‏ إنما كان قدراً مقدوراً ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، فيأخذوه فيلقوه في الجب- ولا يقتلوه- لتلتقطه السيارة‏.‏ لتبيعه‏.‏ في مصر‏.‏ لينشأ في قصر العزيز‏.‏ لتراوده امرأة العزيز عن نفسه‏.‏ ليستعلي على الإغراء‏.‏ ليلقى في السجن‏.‏‏.‏ لماذا‏؟‏ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك‏.‏ ليفسر لهما الرؤيا‏.‏‏.‏ لماذا‏؟‏ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب‏!‏ ويقف ناس من الناس يسألون‏:‏ لماذا‏؟‏ لماذا يا رب يتعذب يوسف‏؟‏ لماذا يا رب يتعذب يعقوب‏؟‏ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن‏؟‏ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم، المنوع الأشكال‏؟‏ لماذا‏؟‏ ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب، لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة‏!‏ ثم ماذا‏؟‏ ثم ليستقدم أبويه وإخوته‏.‏ ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل‏.‏ ليضطهدهم فرعون‏.‏ لينشأ من بينهم موسى- وما صاحب حياته من تقدير وتدبير- لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته‏!‏ وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه‏!‏

ومن ذا الذي يذكر مثلاً أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثاً شخصياً فردياً‏.‏

إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر، ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل‏.‏ ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم‏.‏ لينشأ محمد- صلى الله عليه وسلم- من نسل إبراهيم- عليه السلام- في هذه الجزيرة‏.‏ أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام‏.‏‏.‏ ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام‏!‏

إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد‏.‏ لكل حادث‏.‏ ولكل نشأة‏.‏ ولكل مصير‏.‏ ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير‏.‏

إنه قدر الله النافذ، الشامل، الدقيق، العميق‏.‏

وأحياناً يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد‏.‏ وأحياناً يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير‏.‏ فيستعجلون ويقترحون‏.‏ وقد يسخطون‏.‏ أو يتطاولون‏!‏

والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق‏.‏‏.‏

ومع التقدير والتدبير، القدرة على تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات‏:‏

‏{‏وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر‏}‏‏.‏‏.‏

فهي إشارة واحدة‏.‏ أو كلمة واحدة يتم بها كل أمر‏:‏ الجليل والصغير سواء‏.‏ وليس هنالك جليل ولا صغير‏.‏ إنما ذلك تقدير البشر اللأشياء‏.‏ وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر‏.‏ إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر‏.‏ فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة‏!‏

واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل‏.‏ وواحدة تبدل فيه وتغير‏.‏ وواحدة تذهب به كما يشاء الله‏.‏ وواحدة تحيي كل حي‏.‏ وواحدة تذهب به هنا وهناك‏.‏ وواحدة ترده إلى الموت‏.‏ وواحدة تبعثه في صورة من الصور‏.‏ وواحدة تبعث الخلائق جميعاً‏.‏ وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب‏.‏

واحدة لا تحتاج إلى جهد، ولا تحتاج إلى زمن‏.‏ واحدة فيها القدرة ومعها التقدير‏.‏ وكل أمر معها مقدر ميسور‏.‏

وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون‏.‏ وفي هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين‏:‏

‏{‏ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر‏؟‏ وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر‏}‏‏.‏

فهذه مصارع المكذبين، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل‏.‏ ‏{‏فهل من مدكر‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ يتذكر ويعتبر‏؟‏

ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء‏:‏ ‏{‏وكل شيء فعلوه في الزبر‏}‏‏.‏‏.‏ مسطر في الصحائف ليوم الحساب‏:‏ ‏{‏وكل صغير وكبير مستطر‏}‏‏.‏‏.‏ لا ينسى منه شيء وهو مسطور في كتاب‏!‏

وعند هذا الحد من العرض والتعقيب، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين‏.‏